أقسام
وانوع البكاء
بكاء
الخوف. فعندما يفكّر المرء بنار جهنّم وعذاب الآخرة الأليم ويتجسّدان أمام ناظريه
تنتابه حالة من الخوف والخشية ممّا يدفعه إلى أن يسأل الله أن يتجاوز عن سيّئاته
ولا يعذّبه. فهذا ما يتصوّره عامّة الناس بخصوص البكاء بين يدي الله تعالى. أمّا
أولياء الله فإنّ بكاءَهم ليس محدوداً في هذا الضرب من البكاء، بل لعلّ الأخير هو
أوطأ درجة من درجاته. بالطبع فإنّ مقام البكاء من شدّة الخوف هو - بحدّ ذاته -
مقام سامٍ وقيّم، وهو مؤشّر على إيمان المرء بيوم القيامة وما فيه من وعد ووعيد،
وأنّه لا يرى في تعابير القرآن الكريم والأحاديث الشريفة في هذا الخصوص مبالغة؛
كقوله تعالى: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي
سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ»([1]) حيث يأمر الله ملائكته وزبانية جهنّم بأن
يأخذوا هذا المذنب العاصي، ويغلّوه في سلسلة طولها سبعون ذراعاً ثمّ يُسحَبُ إلى
نار جهنّم. فهذا صريح القرآن الكريم. فعندما يجسّد المرء هذه الآيات في مخيّلته
فإنّه يحدّث نفسه: إنّني لا اُطيق لمس مدفأة حتّى لِلَحظة، فكيف لي أن أتحمّل هذه
النيران؟! بطبيعة الحال إنّ تصوّر الإنسان لهذه المضامين ومن ثمّ بكاءه بين يدي
ربّه كي يخلّصه من النار لهو أمر حسن جدّاً، لكن لا ينبغي أن نظنّ أنّ الأمر منحصر
في هذه القضيّة.
من ألوان
البكاء الاُخرى هو ذلك الذي يكون عند الشعور بالخسران. ولا يدور الحديث هنا عن
الخشية من العذاب وما يحصل في المستقبل، بل إنّ الإنسان يئِنّ ويذرف الدمع من شدّة
الحسرة والعجز والفاقة. ولعلّ أفضل ما يمكن سوقه للتعبير عن هذه الحالة هو الإحساس
بالخسارة. فإذا تجسّدت في مخيّلة الإنسان فكرة أنّه خسر عمره، وأنّه كان يملك ثروة
وكان بإمكانه أن يصنع بها الكثير؛ ثروة تفوق قيمة كلّ ساعة منها مليارات المسكوكات
الذهبيّة! فإذا فكّر الإنسان مليّاً وقال لنفسه: لقد كانت لي في أفضل أيّام حياتي
- وهي أيّام شبابي، عندما كنت أتمتّع بالنشاط، والقوّة في الجسم، والاستعداد في
الذهن، وسلامة الفكر والبدن - كانت لي ثروة كان بإمكاني جني أرباح طائلة منها. لكن
أين أنفقتُها يا ترى؟ إذ لم تكن عديمة الربح لي فحسب، بل لقد ابتُليت الآن بضَعف
في البدن، ولعلّ ذلك قد جرّ عليّ أمراضاً اُخرى أيضاً. والآن فقد خسرت هذه الثروة
ولا أعلم كم ساُعَمِّر بعد الآن، بل وقد يأتي مَلَك الموت هذه الساعة فيقبض روحي!
هذه هي حالة الخسران.
ولعلّكم
شاهدتم في التقارير الرياضيّة كيف أنّ الخاسرين في السباق يبكون أحياناً.
فرغم أنّ
الخاسر بطل من الأبطال، لكنّه يستسلم للبكاء عندما يخسر النزال! فهذا النوع من
البكاء لا يكون جرّاء الخوف من العذاب؛ إذ لا أحد ينوي ضربه مثلاً. هذا البكاء
ناجم عن الشعور بالخسران؛ فهو يشاهد باُمّ عينيه كيف أنّه فرّط بثروته؛ فقد تمرّن
لسنوات عديدة على أمل الفوز في هذا النزال لكنّه فشل. فمن الطبيعيّ أن تنهمر
الدموع من مقلتيه. وهذا هو ضرب آخر من الدموع، ولعلّه يحظى بأهمّية أكبر من النوع
الأوّل.
النمط الآخر
من البكاء هو عندما يتأمّل المرء قُبحَ خطيئته. فعندما يفكّر: أي شيء هو أنا، ومَن
هو الله عزّ وجلّ؟ وكم تفضّل عليّ بنعمائه وترحّم عليّ برأفته. فكم أنا عديم
الحياء إذ أعصي مثل هذا الربّ الذي أمرني ببعض الأوامر لا لشيء إلا لخيري ومصلحتي!
فلا كلام في هذا النوع من البكاء عن التفريط بنعمة، بل القضيّة هنا هي: كم انّني
دنيء وعديم الحياء! وهذا الشعور يفوق النمطين السابقين. فنحن نقرأ في الدعاء
المرويّ بعد زيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا (× ): «ربِّ إنّي استغفرك استغفار
حياء». فهذه الحالة بالنسبة لاُولئك الذين يتمتّعون بمراتب أعلى من المعرفة هي
أشدّ وأقسى. وإنّ قيمة هذه الدموع أكبر بكثير من تلك المذروفة خوفاً من العذاب.
فالمسألة هناك هي خوف العذاب، وغاية المرء من البكاء هي أن لا يحيق به هذا العذاب،
أمّا هذه الحالة فهي عبارة عن علاقة مباشرة مع الله يستحي فيها الإنسان من الله
ذاته من دون أيّ واسطة.
إن
التعزية الناجحة القريبة من مقام الانتظار هي التي تنجح، بالمقام الأول، في تهذيب
النفس لأن من استوعب رسالة عاشوراء يعلم جيدا أن الأقرب مقاما إلى سيد الشهداء (× )
هو الأكثر شبها و تشاکلا معه، ناهيك عن أن التهذيب هو نوع من الانتقام العملي من
أعداء الإمام الحسين × )». من هنا، كلما زاد عدد الذين يحملون أكبر قدر من التشابه
مع الإمام الحسين عليه السلام) و زاد عدد انصار نهجه في المجتمع، زاد غضب أعداء
الإمام الحسين و الإمام المهدي × » و اشتد ضعفهم وأصبحوا أكثر انزوا و عزلة، وكانت
الظروف ممهدة بشكل أكبر لظهور المنتقم الأصلي، وفي المقام الثاني تكون التعزية
أكثر نجاحا وأقرب إلى مقام الانتظار بما يجعلها أكثر قوة و فائدة بالنسبة لأهداف
الإمام المهدي × ». إن المعي الحقيقي يعبر عن حقده المقدس إزاء أعداء الإمام
الحسين × والمنتقم لدمه من خلال عمله وسلو
که. فكلما كان الحقد المقدس للمعري أعظم تجاه الأعداء، منحه ذلك قوة أكبر لتهذيب
نفسه و القيام بعمليات الانتقام، و أصبح أكثر جدية في النضال ضد الموائع التي تعيق
ظهور المنتقم الأصلي، بعبارة أخرى، إن مدى صدقية المعري تبرز في العمل والسلوك لا
في ترديد الشعارات. البراءة والحقد المقدس إزاء أعداء الإمام المهدي عليه السلام»
الذين يعتبرون المانع الرئيسي الظهورهم، هو الشيء الذي يحتاجه المعزى الحقيقي.
بمقدار التزام المعزي بوظائفه تجاه المنتقم الأصلي و منجي العالم، بنفس المقدار
يتقرب من الإخلاص والصدق، لأن عنصر الانتقام سيكون له مجال أكبر في تعزيته و
حياته، و في غير هذه الحالة، فإن تعزيته ستقترن بالضعف و الذلة. لا شك في أن سيد
الشهداء والإمام المهدي ^ » يسهما أن يشاهدا المعزين والمحبين و هم يتوفرون على
القدرة والقوة و الشجاعة في العمل، و في نفس الوقت، يبر آن من ضعفهم و ذلتهم و
غفلتهم و خوفهم. والحق أن المعزي الحقيقي قد تعلم دروس الشجاعة والقدرة على إنزال
الضربات بالعدو و أن يشكل تهديد له من أبطال عاشوراء، لذا فإن المعي الذي لا يشكل
تهديدا و خطرا على الاستكبار العالمي و أعداء الإمام المهدي × »، والذي لا يتوفر
على شجاعة محاربة موانع ظهور الإمام المهدي عليه السلام»، أو إنه لا يحمل هذا
الهاجس أو الهدف أبدا، فلا بد له أن يرتاب في صداقته و محبته للإمام.
يقول الإمام
الخمينيّ: البكاء شعيرة دينية سياسية "لا ينبغي أن يتخيّل جيل الشباب
والناشئة أنّ القضيّة هي مجرّد بكاء أمّة، كما يحاول الآخرون (الأعداء) أن يصوّروه
لكم ويقولوا: أنتم أمّة البكاء, إنّهم في الحقيقة يخشون من هذا البكاء لأنّه بكاء
على المظلوم وصرخة في وجه الظالم، وتلك السواعد التي تخرج وترتفع إنّما قامت في
مقابل الظالم، وعليكم أن تحافظوا عليها، إنّها شعائرنا الدينيّة، وهي شعائر
سياسيّة يجب حفظها، فلا يخدعنّكم أولئك الأشخاص الذين يريدون-وتحت أسماء وعناوين.
البكاء
وقوف الفئة القليلة في مواجهة الإمبراطوريّة الكبيرة
إنّهم لا
يدركون أنّ البكاء في عزاء الإمام الحسين × يُبقي مفهوم وقوف الفئة القليلة في مواجهة
الإمبراطوريّة الكبيرة والعظيمة حيّاً. إنّه النهج العمليّ للإمام الحسين × ، وهو
نهج للجميع: (كلّ يوم عاشوراء, وكلّ أرض كربلاء) ومعنى ذلك أن نحافظ على هذه
النهضة في كلّ زمان ومكان وبنفس الطريقة"([2]).
من وجوه
حسن البكاء على الإمام الحسين × هو أنّ البكاء عليه من خلال عَقْدِ المجالس يولِّد
شعوراً بالتضامن نحو مظلوميّة الإمام الحسين (× ) الّذي استشهد من أجل الحقّ،
وقتلوه لأنه أمرهم بالحقّ؛ ولأنّه إبنُ أمير المؤمنين عليّ (× ) وسيّدة نساء أهل
الجنّة مولاتنا فاطمة الزّهراء (÷)، وهذا الشعور الجماعي بالمظلوميّة يولِّد
شعوراً بالإنتقام من الظالِمين فالبكاء يولِّد شعوراً بالتضامن نحو مظلوميّة
الامام × ([3]).
7. البكاء الفعّال
يقول
السيد الخميني قدس سره قد يظنُّ البعض أنّ البكاء عمل سلبيّ لا أثر له على الصعيد العمليّ
ولكن الإمام قدس سره يراه بكاءً فاعلاً وذا آثار عمليّة: " ... لا يظنّوا
أنّنا مجرّد "شعب بكّاء" فإنّنا شعب تمكّن بواسطة هذا البكاء والعزاء من
الإطاحة بنظام عمّر ألفين وخمسمائة عام"
يقول
الإمام قدس سره: "لو بكينا على الإمام الحسين × إلى الأبد فإنّ ذلك لن ينفعه شيئاً، بل ينفعنا
نحن، وفضلاً عن نفعه لنا في الآخرة فإنّ له في الدنيا من المنافع ما ترون، فلا
يخفى عنكم ما له من الأهمّيّة من الناحية النفسيّة والدور في تأليف القلوب
وانسجامها".
وهذا أثر
غير خفي للبكاء على مصاب سيّد الشهداء × وعنه يقول قدس سره: "ينبغي لنا أن
نبكي على شهيدنا ونصرخ ونُعبّئ الناس بالوعي واليقظة ....
وعن علّة
وصيّة الإمام الباقر × لابنه الإمام الصادق عليه السلام باستئجار من يندبه في منى
في موسم الحج لعشر مواسم يقول: " ... فحين يجتمع المسلمون في موسم الحجّ من
كلّ أنحاء العالَم في منى ويجلس شخص ليرثي الإمام الباقر × ويوضّح جرائم مخالفيه وأعدائه وقاتليه لمدّة
عشرة أعوام ويستمع له
الناس،
فإنّ ذلك يؤدّي إلى توجيه اهتمام الناس نحو هذا المنهج وتقويته وإثارة موجة من
السخط والنقمة ضدّ الظالم .
أمّا هذا
اللون من البكاء فهو خاصّ بالمحبّين والمشتاقين. فالذين يلِجون في وادي المحبّة
تنتابهم منذ البداية حالة المناجاة والتضرّع، وتعذّبهم لوعة الفراق، فتجري - لذلك
- دموعهم على وجناتهم. وإنّ من أبلغ الجُمَل المعبّرة عن هذه الحالة هو هذا المقطع
من دعاء كميل بن زياد، حيث يقول أمير المؤمنين (× ): «فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي
وربّي صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك» ؟!
ينقل
المرحوم الصدوق في كتابه «علل الشرائع» عن رسول الله (| ) أنّه قال: «بكى شعيب (× )
من حبّ الله عزّ وجلّ حتّى عَمِي، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بصرَه. ثمّ بكى حتّى
عمي، فردّ الله عليه بصره. ثمّ بكى حتّى عمي، فردّ الله عليه بصره. فلمّا كانت
الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب! إلى متى يكون هذا أبداً منك؟ [إلى متى تستمرّ في
بكائك هذا] إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجَرْتُك، وإن يكن شوقاً إلى الجنّة فقد
أبحتك. قال: إلهي وسيّدي! أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى
جنّتك، ولكن عَقَدَ حبّك على قلبي فلست أصبر أو أراك [حتّى أراك]. فأوحى الله جلّ
جلاله إليه: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدِمُك كليمي موسى بن عمران» ،
فكان من نتيجة ذلك أن فرّ موسى (× ) من مصر وقَدِم إلى مَديَن ورأى بنتي شعيب
فأقام هناك ثمانية أعوام أو عشر سنين. كان ذلك هو الأجر الذي أعطاه الله تعالى
شعيباً في الدنيا وهو أن أخدمه نبيّاً من اُولي العزم كموسى (× ) ليرعى له غنمه.
وهذا هو عين ذلك البكاء الذي طلب الله من نبيّه موسى (× ) أن يهبه إيّاه. والرواية
التي تلوناها في المحاضرة الفائتة كانت بخصوص نفس هذا النمط من الأشخاص حيث يقول
جلّ وعلا: «أنا خاصّة للمحبّين». فأشخاص كهؤلاء ليس لهم في ليلهم ونهارهم سوى
الله، ولا تلهج ألسنتهم بغيره، يعيشون نهارهم منتظرين حلول الليل كي يعكفوا على
عبادته. وعندها يقول عزّ وجلّ: «هَبْ لي من عينك الدموع، ومن قلبك الخشوع، ومن
بدنك الخضوع، ثمّ ادعُني في ظُلَم الليل تجدني قريباً مجيباً»؛ فإذا دعوتني في جوف
الليل فستجد أنّني قريب منك، وسأجيبك.
[1] /الحاقة _30.
[2] /صحيفة نور، ج 10، بتاريخ
30/ 7/58 هـ. ش.
[3] /رد الهجوم على شعائر
الامام الحسين A
تعليقات
إرسال تعليق