غيابُ الجسدِ، وحضورُ العهد
سَلامُ مَن لَوكَانَ مَعَكَ بِالطُّفُوفِ لَوَقَاكَ بِنَفسِهِ حَدَّ السُّيُوفِ
الوقفة الأولى:تمني
معية الامام في كربلاء
ذكر الشيخ محمود
آل الشيخ العالي: كيف يتحقق للمرء في هذا
العصر وبأي آلية يمكن تطبيق مقولة: يا ليتنا كنا معكم؟
*
أستطيع أن أجيب علي هذا السؤال من خلال ما ورد في بعض الروايات المتعلقة بقضية
الإمام المهدي - عجل الله فرجه الشريف - فإنه جاء في جملة من هذه الروايات أنه من
مات منتظرا لهذا الأمر فقد كان في الفسطاط مع الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف : عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه
السلام يقول: من مات وليس له إمام فموته ميتة جاهلية، ولايعذر الناس حتي يعرفوا
إمامهم، ومن مات وهو عارف لإمامه لايضره تقدم هذا الأمر أو تأخره، ومن مات عارفا
لإمامه كان كمن هو مع القائم في فسطاطه. ([1])
، أو ورد في بعضها من مات منتظرا لهذا الأمر قد كان مع المهدي عجل الله فرجه
الشريف. فكما أن في قضية الحضور ونصرة الإمام صاحب العصر والزمان لا يهم أن يكون
الإنسان من أنصاره الذين يقاتلون علي الساحات ويقاتلون بحمل السلاح، فالبعض قد يظن
أن نصرة قضية الإمام المهدي هي من خلال أن يكون حاضرا في زمن الحضور ويقاتل في صف
الإمام المهدي وجيش الإمام المهدي، فالروايات تريد أن تلفت نظر الإنسان الموالي
إلي أن يكون منتظرا حقيقيا لقضية الإمام المهدي عليه السلام ، فمن كان منتظرا
حقيقيا فإنه يكون مع الإمام المهدي سواء أدرك زمن الحضور أم لم يدركه.
الانتظار
الحقيقي يعتمد علي أساسين:
الأساس
الأول: هو العمل الجاد علي بناء الذات بناءا صالحا وفق أحكام الشريعة وآداب
وتعاليم الدين وأن يصوغ نفسه صياغة صحيحة وفق معالم الدين وأحكامه، هذا هو الأساس
الأول.
الأساس
الثاني: أن يعمل علي الانتظار بمعني أن يكون سليم العقيدة وفي ذلك دلالة علي ضرورة
البناء العقائدي الصحيح والسليم وخصوصا ما يرتبط بمسألة الإمامة وسائر الجوانب
العقائدية، ويعتقد بأن هناك إمام سوف يظهر وهذا الإمام هو الإمام المهدي عجل الله
فرجه الشريف.
فإذا
عمل علي هذين الأساسين علي بناء ذاته بناءا صحيحا وعلي سلامة عقيدته وخصوصا في
الاعتقاد بالإمام المهدي فقد أدرك الإمام المهدي وكان معه في فسطاطه. كذلك في
مقولة: «يا ليتنا كنا معكم » ([2])
من يعمل علي إصلاح ذاته وتربيتها تربية صالحة وفق تعاليم الدين معتقدا بإمامة
الأئمة الاثني عشر عليهم السلام وبها لهم من المقامات والفضائل والكرامات عند الله
يكون عارفا بهم حق معرفتهم فحينئذ قد حقق هذا المعني أنه معهم وإن لم يكن حاضرا
يوم كربلاء.
المشكلة
أن البعض قد يردد هذه الشعارات لكن من دون أن يلتفت إلي مدلولاتها، وعندما يرددها
من دون أن يلتفت إلي مدلولاتها وإيحاءاتها فإنها لا قيمة لها. القيمة هي عندما
يجسد الإنسان هذه الشعارات من خلال دلالاتها وإيحاءاتها، فالكون مع الإمام عليه
السلام والكون معه في المعركة يتطلب أن تكون ذات الإنسان مبنية بناءا صالح علي
مستوي السلوك والاعتقاد.
ما
قيمة من يحضر ولكنه بعد ذلك يتعلل ويتعذر ويبرر عدم مشاركته بألف حجة وألف مبرر
وهو حينئذ يكون مشمولا لقولهم: من سمع واعيتنا ولم يجبنا أكبه الله علي منخريه في
جهنم ([3]).
فإذا
المسألة المهمة هي أن يكون الإنسان ساعيا لتجسيد تعاليم أهل البيت و تعاليم الدين
وبناء ذاته بناءا صحيحا وتصحيح معتقده وأن لا تؤثر عليه التشكيكات وأن لا يقع تحت
تأثير هذه الشكوك التي تردد([4]).
ومن
هنا الامام # يرشدنا للمسار الصحيح ويضع قلوبنا وعقائدنا في المسار الصحيح وفي رواية
الإمام الرضا عليه السلام مع ابن شبيب (.. يا بن شبيب، إن سرك أن يكون لك من
الثواب مثل ما لن أستشهد مع الحسين فقل متي ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز
فوزا عظيما)([5]).
ما
اعظمها واجملها من كلمة (فقل متي ما ذكرته) ماذا أقول (يا ليتني كنت معهم)
والنتيجة (فأفوز فوزا عظيما) .
نعم
هذه المعية الكلّ يتمنّى أن يكون معهم لا مع غيرهم فإن تيسّرت المعيّة المكانية
فهي نور على نور وإن لم تتيسّر فهناك معيّة أخرى لا بد من الالتفات إليها وهي تكمن
على مستوى الطاعة والانتماء إليهم كمعيّة سلمان المحمّدي حيث شهد لذلك غير واحدٍ
من المعصومين بقولهم: سلمانٌ منّا أهل البيت.
والمعيّة
الأولى: قد لا تعطي الإنسان ميزة إذا انفصلت عن المعيّة الأخرى وسيكون كالخشب
المسنّدة التي كان بعضها يزاحم الرسول| أو الفئة المنافقة التي ما برحت إلا وتطلب
الفتك به وبمن جاء من بعده من المعصومين ^ .
أما المعيّة الثانية: فهي تخرق الزمان والمكان،
وتعطي الفرصة للجميع للانتماء إليهم صلوات الله عليهم وإن رأوا منه صدق الانتماء
قبلوا معيّته فكانوا معه كما هو معهم. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ المعيّة متبادلة
بيننا وبينهم؛ فمنهم -الله والرسول وأهل بيته ^
معيّة تجاهنا، ومنّا معيّة تجاههم.
المعيّة
لها عدة اقسام فقد تكون : مكانيّة ، وقد
تكون زمانيّة ، وقد تكون معنويّة المعيّة وجوديّة المعية القيومية معية قهارية معية المصاحبة المعية الروحانيةمعيّة توفيقية المعية الواقعية المعية الايمانية المعية
الانفصامية المعية الضدية المعية الصورية.
و
ايات واحاديث ومتون الزيارات كثيرة تشير الى اقسام المعية ونحن ذكرنا تفصيلها في كتابنا (معراج السماء في
شرح ادعية زيارة عاشوراء) وهناك ذكرنا اقسام المعية وبيانات متعلقة بها ونحن نقتصر
على واحدة منها موضع حاجتنا .
المعية
الروحانية التي هي عبارة عن الموافقة في الأخلاق والأطوار والمشابهة في السلوك
والأفعال وعموم هذه المعية قليل الوقوع جداً فمعكم معكم لا مع عدوكم: أي فأنا معكم
بالقلب واللسان أو في أيام الغيبة والرجعة أو في الدنيا والآخرة.
وما
هو مطلوب السائل هو أن يوصله الله تعالى إلى معية أهل بيت النبي | وسلم بالمعية الروحانية في الدنيا والآخرة وهذا
المعنى لا يتحقق إلا بأن تترقى النفس في الكمالات ورفع الرذائل عنها وتزيل عن مرآة
القلب صدأ الشقاء بمصقول العلم والعمل حتى تصبح متلألئة بحسب مرتبتها من الظلال
المقدسة لتلك الأنوار وعندها تصل قهراً
(حتماً)
إلى درجة المعية إذن روح هذه المعية هي تلك المعية الأولى وهي لا تتحقق بدون
السنخية أبدا
إن
المعية الروحانية هذه لا تتحقق إلا بوجود سنخية أي تشابه في السنخ (بضم السين وهو
الأصل) أي أن يكون الموالي مشابهاً لأهل البيت عليهم السلام في أصل كل شيء مثلاً
في أصل التوحيد, في أصل عبادة الله تعالى في أصل حسن الخلق وهكذا ... وطبيعي أن
المقصود بالمشابهة في الأصل هو أن يتحلى بدرجة تتناسب معه وإلا فإن الوصول إلى
مرتبتهم عليهم السلام ليس في مستطاع غيرهم من البشر ولذلك كانت مودتهم دليل
الإلتزام بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الوقفة
الثانية: البذل والفداء والوقاء
أقول
اما البذل فقد تقدم الحديث عند فقرة (السَّلَامُ
عَلَى الْحُسَيْنِ الَّذِي سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِمُهْجَتِهِ) في الإشارة الى بيان
المعني البذل و الباذل و المبذول و المبذول فيه وما يرتبط بها .
المحبة:هي
الطاقة العظيمة التي تحرک الانسان في جميع شؤون الحياة و مظاهرها المختلفة.
المحبة:شعور
بهيج تسهل معه المشاکل و يمکن تحمل الآلام و المصائب.
المحبة:تسوق
الانسان نحو التضحية و الفداء،و ان يتخلي عن جميع الاشياء من اجل کسب رضا المحبوب.
و
من هنا کانت المحبة من أفضل السبل الي بلوغ الکمال،فلو ان الانسان استعمل هذه
الموهبة الالهية في طريقها الحقيقي لا المجازي،فسوف يتمکن من نيل الفضائل و يجتنب
الرذائل.
و
انما تدور رحي الحياة حول قطب المحبة،و هذا من الامور الفطرية التي أودعها اللّه
في الانسان،بل الحيوانات أيضا تتمتع بنعمة المحبة و العاطفة،و هو ما تشاهده في
الطيور و سائر الحيوانات بشکل واضح،فهي رمز بقاء الحياة و استمرارها،الا أنها
موجودة لدي الانسان بشکل أجلي و اکبر و أتمّ.
و
لو ان الانسان استعمل هذه الطاقة للحصول علي الماديات فقط،فانها ستؤدّي به الي
الخسران،و الابتلاء بالرذائل و بالامراض الروحية،و سيغدو في الحقيقة عبدا للشيطان
الذي يصده عن الوصول الي الکمالات و الحقائق الرحمانية.
و
اما لو استعملها في سبيل اللّه،فستؤدي به الي کسب الکمالات و السمو الروحي،و ستکون
علامة لايمانه،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن معني کون الحب و البغض من
الايمان،فقال:«هل الايمان إلاّ الحب و البغض» ([6]).
و
قال في رواية اخري:«الدين هو الحب،و الحب هو الدين» ([7]).
أقول
والحديث واسع جدا في هذا المجال ونكتفي بهذه الإشارة.
ينطبق
معنى الفداء على عدة أمور:
الفداء
بالمال وذلك بأن يقدم الإنسان مالاً لدفع الضرر عن الاخرين ، فمثلاً: إذا كان لديه
أسير عند أعدائه فإنَّه يقدم مالاً ليفديه به ومن ذلك قوله تعالى في “سورة محمَّد”:﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾([8]).
ومنه
الفدية التي يقدمها الإنسان بدلاً عن الصيام ، قال تعالى في “سورة البقرة” : ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ([9])﴾
ومنه
تقديم الأضاحي فداءً لدفع البلاء عن الأولاد ، ومن ذلك ما قدمه عبد المطلب وهو مائة
بعير فداءً عن ذبح ولده عبد الله بعد ان قد نذر لذبحه .
الفداء
بالعمل ، ومنه قوله تعالى ″: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ
مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾([10]).
الفداء
بالولد وذلك ان يقدم الإنسان أعز ما لديه وهم الأولاد في سبيل شيء مهم كالدفاع عن
العرض أو الوطن أو الدين ، ومنه ما كان يفعله أبو طالب عليه السلام حيث كان يطلب
من أولاده أن يناموا مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي يقع البلاء عليهم
بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الفداء
بالنفس ، وهو تقديم النفس من اجل الحفاظ على ما هو أغلى منها كالدِّين ، ومنه
تقديم الإمام علي عليه السلام نفسه فداءً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة
الهجرة .
وبعد
هذه الإشارة نقول ان النصوص الدينية بينت بشكل واضح ان الذي يستحق الفداء والوقاء هم
اهل بيت العصمة والطهار ^
يقول
الرسول الاکرم d :«لا يؤمن احدکم حتي يکون اللّه و رسوله أحبّ
اليه مما سواهما» ([11]).
وقال
الرسول الاکرم d :«لا يؤمن أحدکم حتي اکون أحبّ اليه من نفسه و
اهله و ولده» ([12]).
واما
الزيارت والادعية (ببابي انتم وامي ونفسي واهلي ومالي من اراد اللّه بدا بكم)زيارة
الجامعة الكبيرة.
وكذلك(بِاَبي
اَنتَ وَاُمّي وَنَفسي لَكَ الوِقاءُ وَالحِمى، يَا بنَ السّادَةِ المُقَرَّبينَ)
دعاء الندبة.
وفيما
نحن فيه (وَفَدَاك بِرُوحِه وَجَسَدِهِ، وَمَالِهِ وَولْدِهِ، وَرُوحُهُ لِرُوحِكَ
فِدَاءٌ، وَأهْلُهُ لأهلِكَ وِقَاءٌ). زيارة الناحية المقدسة.
أقول
ولهذا فان هذه الزيارات والادعية تربينا تربية ان نكون مستعدين لتقديم الأموال
والاهل والاباء والامهات والأولاد والانفس للامام المعصوم لنتشبه بالذين (بذلوا
مهجهم دون الحسين × ).
[1] / المحاسن للبرقي، ج1،
ص156، ب 32، ح 85. وكذا في الكافي، الكليني، ج 1، ص 372، ح 5.
[2] / في رواية الإمام الرضا عليه السلام مع ابن شبيب
(.. يا بن شبيب، إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لن أستشهد مع الحسين فقل متي
ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 14،
ص 502 - 503، باب 66 من أبواب المزار وما يناسبه، ح 5.
[3] / الأمالي، الشيخ الصدوق،
ص200، المجلس الثامن والعشرون، ح 7. تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني، ص
115. ومثله في الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2،
[4] / الحوار العاشورائي مائة سؤال وجواب ص: 109.
[5] / وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 14، ص 502 – 503.
[6] / اصول الکافي،25/2،الحديث 5.
[7] / .تفسير نور الثقلين،84/5.
[8] / سورة محمد - الآية 4.
[9] / "البقرة: 184.
[10] / سورة البقرة:196.
[11] / جامع السعادات،191/3.
[12] / جامع السعادات،179/3.
تعليقات
إرسال تعليق