القائمة الرئيسية

الصفحات

المقام السابع السَّلامُ عَلَيكَ يا عَينَ الحياةِ

 





المقام السابع

نبعُ الوجود، وعينُ الحياة

السَّلامُ عَلَيكَ يا عَينَ الحياةِ

 

حين نقرأ في الزيارة: «السلام عليك يا عين الحياة» ندرك أننا أمام تعبير يتجاوز حدود الأرض والسماء، والدنيا والآخرة؛ فهو لا يشير إلى حياة محدودة بجسد أو زمن، بل إلى الحياة المطلقة، ظاهرها وباطنها، ملكها وملكوتها.

فالإمام هو عين الحياة؛ أي الأصل الذي تتفجّر منه كل حياة، والمبدأ الذي تستمدّ منه الأكوان وجودها. ليس نباتٌ ينبت، ولا مخلوق يتحرك، ولا إنسان يعيش لحظة من لحظاته، إلا وهو فيض من عين الحياة. ولولا هذا الامتداد المبارك، لانقطعت الحياة من أصلها:«لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها» الكافي، ج 1، ص 178

 

إشعاع الحياة الدنيوية

 

إن ما نراه من حياة دنيوية رغم قصرها ليس إلا شعاعًا ضئيلًا من تلك الحياة الكبرى التي يمثلها الإمام. والناس مع ذلك يتقاتلون عليها، يخوضون الحروب الدامية، ويضحّون بالغالي والنفيس لأجل متاعها الزائل.

هذا الشعاع الدنيوي لم يُظهره الله إلا ليقودنا إلى الحقيقة؛ أي إلى الحياة الخالدة التي لا موت فيها ولا ظلمة، لا جهل ولا نقص، بل حياة مفعمة بالنور والأنس والطمأنينة والسعادة.

مراتب الحياة

الحياة النباتية: قوامها النمو والارتواء والغذاء، وهي صورة أولية للحياة.

الحياة الحيوانية: يضاف إليها الإحساس والحركة والإرادة الغريزية.

 

الحياة الإنسانية: تشمل الوعي والعقل والتفكير والاختيار الحر.

الحياة الإيمانية الإلهية: وهي أن يعيش الإنسان بالله، لله، وفي سبيل الله، حيث يكون البعد الروحي هو الحاكم على باقي الأبعاد.

الإمام "عين الحياة" «لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها» (الكافي 1: 179). أي أن بقاء النظام الكوني واستمرار تدفق الحياة في كل صورها متوقف على وجود الحجة.

الإمام ليس مجرد ضامن لبقاء الحياة المادية، بل هو عين الحياة، أي مصدر حياتها الباطنية ومعناها الأصيل.

فإذا كانت الحياة النباتية تستمد قوامها من الشمس والماء، والحيوانية من الغرائز، والإنسانية من العقل، فإن الحياة الإيمانية لا تنبع إلا من الولي الإلهي الذي هو المجرى لفيض الله عزوجل.

النبات يطلب الماء لينمو، والحيوان يطلب الغذاء ليتحرك، والإنسان يطلب الفكر ليختار.

أمّا المؤمن فإنه يطلب الإمام ليحيا حياة قلبية إلهية، لأنه بغيره يعيش حياة الجسد بلا حياة الروح.

إذن: كل مرتبة حياة تحتاج إلى "واسطة" تحفظها وتمنحها معناها، والإمام هو واسطة الحياة الإيمانية.

 

 

كيف يحيا الإنسان بالحياة الإيمانية عبر الإمام؟

المعرفة: أن يعرف أن الإمام هو سر بقاءه الإيماني، كما يعرف النبات أن حياته بالشمس.

الطاعة والاتباع: كما تستجيب الأعضاء لأمر الدماغ، يجب أن يستجيب المؤمن لإرشاد الإمام عليه السلام، قال تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24).

المودّة والذوبان: الارتباط الوجداني العاطفي، حيث يصبح الإمام محبوبًا هو الغاية، فيذوب فيه العبد فيحيا بحياته.

الانتظار العملي: الانتظار ليس ترقبًا سلبيًا، بل حركة إصلاحية، تجعل حياة الإنسان مشدودة إلى مستقبل الفرج، فيعيش حياة أمل دائمة.

 

الحياة الحقيقية

الإمام هو الحياة الأبدية الخالدة، الحياة الجنانية الإلهية، التي لا يعتريها نقص ولا يهددها فناء. كل من اتصل به حاز نصيبًا من هذه الحياة، وكل من أعرض عنه وقع في موتٍ معنوي ولو بدا حيًّا في ظاهره.

فهو الروح التي بها يحيا العالم، والنور الذي به يستضيء الوجود، واليد التي بها تستمر حركة الخلق. ومن أراد أن يذوق طعم الحياة الحقيقية، فليتوجّه إلى عين الحياة، وليغترف من نبعه الصافي.

السلام على عين الحياة، الذي به يحيى ظاهر الدنيا وباطن الآخرة، الذي هو مبدأ النور، وأصل الوجود، وغاية الكمال.

السلام على الحجة الذي به يحيا القلب قبل الجسد، والروح قبل البدن، والإنسان قبل العالم.

الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه هو ماء الحياة.

كما أنّ الماء الخارجي هو سرّ استمرار الجسد، فإنّ الإمام هو سرّ بقاء الروح، وبدونه لا معنى للحياة الإيمانية.

لكن تأمل:الماء وإن كان يملأ الأنهار والبحار، لا يروي عطشانًا ما لم يذهب إليه ويشرب منه.

الذي يكتفي بالنظر إلى صورة ماء أو بذكر اسمه على الورق، سيبقى عطشانًا حتى الهلاك.

وكذلك الإمام فمعرفتنا بأفضاله، أو ترديد اسمه بلا ارتباط حيّ، لا تكفي.

لا بدّ أن نسير إليه بقلوبنا، ونرتبط به بروحنا، ونُشرب أرواحنا من عذب ولائه.

إنّ صاحب العصر هو ماء الله الجاري، به تحيا القلوب بعد موتها، ومنه يستمدّ المؤمنون قوتهم للثبات على درب الله.

فليكن سعينا إليه كالسعي إلى الماء عند شدة العطش، إذ لا حياة بلا ارتواء، ولا ارتواء بلا ماء، ولا ماء بلا الإمام.

 

قصة

الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلمه الله تعالى قال:كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير وكان ناصبياً فرفع إليه أن أبا راجح هذا يسب الصحابة فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه حتى أنه خرب على وجهه فسقطت ثناياه وأخرج لسانه فجعل فيه مسلة من الحديد وخرق أنفه ووضع فيه حبل من الشعر وشد فيه حبل آخر وآمر بأن يجر منه فيدار به أزقة الحلة فداروا به والضرب يأخذ من جوانبه حتى سقط إلى الأرض وعاين الهلاك.

وأخبر الحاكم بذلك فأمر بقتله فقال الحاضرون إنه شيخ كبير وقد حصل له ما يكفيه وهو ميت لما به فاتركه يموت حتفه أنفه ولا تتقلد بدمه وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليه وقد انتفخ وجهه لسانه ولسانه فنقله أهله ولم يشك أحد أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغد غدا عليه الناس فإذا هو قائم يصلي على أتم حالة وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت واندملت جراحاته ولم يبق لها أثر والشجة قد زالت من وجهه.

فعجب الناس من حاله وسألوه عن أمر فقال: إني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان أسال الله تعالى به فقد كنت أسأله بقلبي، واستغثت بسيدي ومولاي صاحب الزمان (عليه السلام) فلما جن علي الليل إذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان قد أمر يده الشريفة على وجهي وقال لي: اخرج وكد على عيالك فقد عافاك الله تعالى فأصبحت كما ترون.

وحكي الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال وأقسم بالله تعالى إن أبا راجح هذا كان ضعيفاً جداً ضعيف التركيب أصفر اللون شين الوجه مقرض اللحية وكنت دائماً أدخل الحمام الذي هو فيه وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه فرأيته وقد اشتدت قوته وانتصبت قامته وطالت لحيته واحمر وجهه وعاد كأنه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدركته الوفاة.

ولما شاع هذا الخبر وذاع طلبه الحاكم وأحضر عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة وهو الآن على ضدها كما وصفناه ولم ير لجراحاته أثراً وثناياه قد عادت فداخل الحاكم في ذلك رعب العظيم.

وكان يجلس في مقام الإمام (× ) في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة فصار بعد ذلك يجلس ويتقلبها وعاد يتطلف بأهل الحلة ويتجاوز عن مسيئهم ويحسن إلى محسنهم ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك إلا قليلاً حتى مات(بحار الأنوار ج 52 ص 70).

فوائد مستفادة من القصة

1.كرامة الإمام الحجة عجل الله فرجه  القصة تكشف عن تصرف مباشر من الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) في حياة شيعته، وإغاثتهم عند الشدائد، حتى لو بلغت حدّ الموت.

فهي شاهد حي على أن الإمام ليس غائباً بمعنى الانقطاع، بل هو حاضر، يرى ويسمع ويغيث ويعين.

2. ثمرة الاستغاثة الصادقة أبو راجح حينما انقطع لسانه ولم يستطع النطق، لم ينقطع عن الدعاء؛ دعا بقلبه، واستغاث بالإمام.

هذا يعلّمنا أن حقيقة الدعاء ليست في اللسان فحسب، بل في صدق القلب والتوجه، وأنه في الحالات الحرجة يمكن للقلب أن ينادي قبل أن ينطق اللسان.

3. الإمام هو ماء الحياة كما ذكرتم سابقًا، الارتباط بالإمام هو سرّ الحياة.

أبو راجح كان في ظلام الموت، فلما تجلى له الإمام امتلأت الدار نورًا، وعاد للحياة شابًا قويًا.

المعنى: الحجة عجل الله فرجه هو الذي يمدّ أولياءه بطاقة الحياة والروح، فينقذهم من الفناء.

4. تأثير الكرامة في النفوس والواقع هذه الكرامة لم تغيّر حال أبي راجح فقط، بل أثّرت حتى في الحاكم الناصبي مرجان، فأخذته الرهبة واضطر لتغيير سلوكه مع أهل الحلة.

فالإمام إذا أظهر كرامته بعبدٍ مؤمن، صار ذلك حجّة على الآخرين، ورادعًا للظالمين.

5. تجديد الأمل للمؤمنين المؤمنون الذين رأوا أبا راجح ميّتًا فعاد شابًا قويًا، ازدادوا يقينًا بأن الإمام موجود، يرعى أولياءه، ولا يتركهم.

هذه القصة تغرس في القلب الأمل بالفرج وأن الإمام يرعى كل مؤمن مهما كان ضعيفًا أو مستضعفًا.

6. البعد الأخلاقي والتربوي أبو راجح كان رجلاً بسيطًا ضعيف الجسم، لكنه قوي القلب بالإيمان والولاء.

هذا يعطينا درسًا أن القيمة ليست في الجسد أو المظاهر، بل في صدق التوجه إلى الإمام.

ومن ثمّ فإن العبد إذا صدق، أكرمه الله بما يعجز عنه أقوى الأقوياء.

 

القصة تُعلّمنا:

أن الإمام عجل الله فرجه حاضر يغيث المستغيثين.

أن الدعاء القلبي الصادق يصل وإن عجز اللسان.

أن الكرامة لا تنحصر في الخوارق بل تمتد لتربية المجتمع وتغيير أحوال الناس.

أن الضعف الجسدي لا يمنع القوة الروحية إذا ارتبط القلب بولي الله.


تعليقات