المقام الرابع
المُهَذَّبُ
الخائِفُ
السَّلامُ عَلَيكَ أيُّها المُهَذَّبُ الخائِفُ
المحطَّة
الأولى: «المُهذَّب الخائِف»:
قد وردت عبارة «المهذَّب الخائف»في
هذه الزيارة وذكر الخوف في موارد اخرى كما في علل الغيبة وغيرها فما معنى ذلك؟
وهذا السؤال أجابت عنه روايات كثيرة
جدّاً، تدلُّ على عدَّة معاني وأوصاف، أحدها أنَّ الإمام يخرج من المدينة خائفاً
يترقَّب إلى مكَّة حين يقترب ظهوره، على سُنَّة موسى بن عمران (عليه السلام).
وهنا تتبادر الأسئلة عن معنى الخوف،
ولماذا يخاف لو كان من المحتوم نصره؟ فليترك الحبل على الغارب، وليذهب برجله إلى
المنون، فإنَّه لا يموت لأنَّه موعود بالنصر، وإنَّ الدِّين سيظهر على الدِّين
كُلّه، بيده المباركة ولو كره المشركون.
فما
معنى الخوف؟
فُسِّر الخوف بأنَّه ليس خوفاً على
النفس، بل هو خوف على المشروع الإلهي، كما أنَّ موسى (عليه السلام) حينما خرج من
مدينة مصر ﴿خائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ (القصص: ١٨)، لم يكن خائفاً على نفسه لنفسه من القتل،
أو حصول الأذى بل هو خائف على نفسه لأجل خوفه على إقامة الدِّين وعلى أداء الرسالة
ومن غلبة الجهّال على الأمر، كذلك الإمام المهدي (عليه السلام).
وهذا جواب إجمالي - رغم صحَّته - ولا
بدَّ من التفصيل، فنقول:رغم أنَّ هناك وعد جازم بحصول النصر ونجاح المشروع الإلهي
قضاءً وقدراً، وأنَّ ذلك محتوم لا ريب فيه، إلَّا أنَّ زمنه غير محتوم، والنهاية
معروفة لكن متى ستحصل؟ هل بعد يوم أو بعد سنة أو بعد مئة سنة؟ فينبغي المحافظة على
النتائج التي حصلت لأجل عدم تأخُّر المشروع الإلهي؛ لأنَّه لا حتم فيه من حيث
الزمن والتفاصيل والكيفيات الأُخرى، فالمكاسب التي حصلت عند صاحب المشروع يجب
المحافظة عليها، وهو مأمور بالحرص عليها والخوف عليها من الضياع، (يخاف على شيء
فيتحرَّك للمحافظة عليه برجاء المحافظة عليه)، وهذا هو الصحيح من الموازنة بين
حتمية القضاء والقدر وبين مسؤولية الاختيار والسعي للتكامل فيبقى بين الرجاء
والخوف - كما في الحديث (عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «... لو استُخرِجَ
قلب المؤمن فشُقَّ لوجد فيه نورين: نوراً للخوف، ونوراً للرجاء) تفسير القمّي ٢:
١٦٤، ».-، محافظاً على ما حصل عليه، وسيحصل عليه.
وهكذا كان الحسين (عليه السلام) يخاف
على ضياع جهوده وجهود أبيه وجدِّه وَأُمِّه وأخيه، وما أسَّسه لنجاح المشروع الإلهي،
فهو (خائف يترقَّب) حين خرج من مدينة جدِّه الرسول (عليهما السلام)، خوفاً على
الدِّين وحرصاً منه على الجهود التي بذلها جدُّه وأبوه وأُمُّه وأخوه، بل جهود
كُلِّ الأنبياء السابقين، بل وأكثر وأكثر كان يخاف على ضياع الجهود التي سيبذلها
الأئمَّة من ولده بعده ومن تبعهم بإحسان من المؤمنين.
فالخوف ممدوح لمعيَّة الرجاء معه،
ولذلك فخوف موسى، بل خوف القائم وخوف الحسين (عليهم السلام) خوف معه الرجاء لأنَّه
ليس فيه قعود وتخاذل وقنوط ويأس من روح الله، بل التحرُّك على طبق الخوف لدفعه أو
رفعه، وهذا هو الرجاء العملي.
شجاعة
التدبير لا تنافي الحذر:
سورة الكهف التي اصطلحنا عليها سورة
الإمامة، (وفعلاً هي كذلك)، فهي تعطي أربعة نماذج مهمَّة تُبيِّن حيثيات وسلوكيات
الإمامة، وهي:
١) قصَّة آدم (عليه السلام) كخليفة
وإمام.
٢) نموذج أصحاب الكهف.
٣) نموذج العبد الصالح.
٤) نموذج ذي القرنين.
كذلك تؤكِّد الروايات أنَّ أصحاب
الكهف والعبد الصالح الذي هو الخضر (عليه السلام)، سيكونون من أنصار الإمام المهدي
(عليه السلام)، أي إنَّ هؤلاء لهم الأهلية للعيش في آخر الزمان، أي لهم الأهلية
للقيادة العسكرية والسياسية التدبيرية والاجتماعية في الزمن اللاحق (المُتقدِّم)
المتطوِّر علمياً وحضارياً، ممَّا يكشف لنا عن علوِّ علمهم، وعن عمق عقيدتهم وصفاء
نيَّتهم، وعمق تدبيرهم وخبرويتهم، وأنَّ علمهم ليس من سنخ العلوم المعروفة، بل هو
علم لدنّي كما أخبرنا القرآن في قصَّة الخضر.
نعم القرآن لم يُخبِرنا عن سنخ علم
أصحاب الكهف، بل قال: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدى﴾
(الكهف: ١٣)، ولعلَّ أحد القرائن على أنَّ علمهم لدنّي - بالإضافة إلى قول الآية:
﴿وَزِدْناهُمْ هُدى﴾ - هو نفس أهليتهم للقيادة الإدارية والتدبيرية في آخر الزمان.
الأمر الآخر المهمّ الذي يجب أن
نُسلِّط الضوء عليه، لبيان ميزاتهم التي سبَّبت أهليتهم للقيادة في آخر الزمان -
بعد أن عرفنا أنَّ سنخ علمهم لدنّي -، هو الجانب الأمني أو الحسّ الأمني - كما
يُعبَّر في العصر الحاضر -، والقرآن يُبيِّن لنا ذلك في مقطع صغير خفي يتَّضح
بالتدبُّر وبالتأمُّل، فعن أصحاب الكهف يقول: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً
فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً﴾
(الكهف: ١٩).
فمن قوله: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾، وقوله:
﴿وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً﴾، استدلَّ بعض بها على مشروعية التقيَّة، إلَّا
أنَّه فيها جانب عظيم وخطير من تدريب النفس على الحسِّ الأمني والتدبير، فإنَّ
(التلطّف) الذي طلبه أصحاب الكهف من صاحبهم الذي أرسلوه إلى المدينة فيه جانب عظيم
وخطير من تدريب النفس على الحسِّ الأمني والتدبير، وهو نوع خفاءٍ للمتلطِّف حين
مواجهته للناس.
فاللطافة كما يقول الراغب الأصفهاني:
(ويُعبَّر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأُمور الدقيقة إذن
التلطُّف هو الخفَّة في التعاطي والتعامل، والخفَّة لا يُقصَد بها سرعة الحركة، بل
هي تشير إلى عدم الثقل له لدى الآخرين، وهو عدم الوزن، أي لا يقام لهذا المُتعاطي
وزناً، وكأنَّ العين لا تحسب له حساباً ولا تقيم له وزناً. وهذا معنى عظيم وحسّ
أمني خطير لا يمكن أن يعمله كُلُّ أحد، وهو في الحقيقة هبة إلهية وسرّ إلهي.
لذلك كثير من القصص التي تُروى عن
أشخاص تشرَّفوا برؤية الإمام صاحب الزمان (عليه السلام)، أنَّهم إنَّما التفتوا
إلى أنَّ هذا هو الإمام (عليه السلام) بعد أن ذهب أو اختفى عنهم، وأنَّه لم
يُشعِرهم أنَّه هو الإمام، والإمام أعطاهم إشارات خفيَّة أو لطيفة، ولكن للطفاتها
ودقَّتها لم يلتفتوا إليها، - نعم من يدَّعي الرؤية بداعي إظهار أنَّه وسيط مع
الإمام (عليه السلام) فهو كاذب مفتر -.
خفاء
التدبير بلا خفاء للمدبّر:
كذلك اللطف هو عبارة عن تعاطي لمعانٍ
دقيقة لا يفهمها كُلُّ أحد، فالعبارات اللطيفة الدقيقة التي تُلقى لا يفهمها
عامَّة الناس، بل يفهمها الخواصّ أو خواصّ الخواصّ، فيكون التلطّف هو في الكلام
بقدر السؤال مع عدم الزيادة، والكلام بشكل إجمالي ومقتضب، أو بشكل بسيط وسلس وغير
مُعقَّد، لأنَّ التعقيد يزيد السؤال.
فالتلطّف وعدم إشعار الآخرين هو
إشارة للحسِّ الأمني العالي الذي مارسه أصحاب الكهف.
كذلك الخضر حينما جاء إليه موسى
يتعلَّم منه، حيث كان بين موسى (عليه السلام) وبين الخضر (عليه السلام) موعد، ولا
يُتصوَّر أنَّ الخضر تخلَّف عن الموعد، كما لم يتخلَّف موسى (عليه السلام)، ولكن
الذي حصل أنَّ موسى لم يطَّلع على العلامة حين وقوعها وهي اتِّخاذ الحوت سبيله
سرباً، وحينها كان الخضر (عليه السلام) جالساً في نفس المكان، ولم يشر إلى موسى
(عليه السلام)، ولم يُحرِّك ساكناً لشدَّة حياطته الأمنية، رغم أنَّه عرف موسى
(عليه السلام) حسب المقرَّر.
فتلاقي موسى والخضر وإن كان وعداً
إلهياً وقدراً محتَّماً وقضاءً مُبرماً إلَّا أنَّ ذلك لم يدع موسى والخضر (عليهما
السلام) يتوانيان عن تحمّل أعلى المسؤولية وإتيان قمَّة النشاط ومراعاة أشدّ الحذر
وأدقّ الترقُّب، مع أنَّ الخضر قد شرب من عين الحياة ومضمون البقاء إلى يوم الظهور
المقدَّس للإمام (عليه السلام) إلَّا أنَّ حذره متصاعد حتَّى مع مثل موسى نبيّ من
أُولي العزم.
ومن ثَمَّ قال له حيطةً وحفاظاً على
برنامج مسؤولياته الخفيَّة: ﴿هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف: ٧٨)، والسبب
لأجل أن يبقى في معايشة تامَّة لأُسلوب الحياطة الأمنية - التقيَّة المكثَّفة -
حتَّى في الحالات الاعتيادية، قال تعالى: ﴿قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ عَجَباً﴾ (الكهف: ٦٣).
وهذه التقيَّة من الإمام (عليه
السلام) وأصحابه، والبرنامج الأمني المكثَّف ليس تشكيكاً في وعد الله المحتوم
بالنصر والعياذ بالله، ولا تشكيكاً في قدرة الله، بل هو على العكس تماماً زيادة في
الإيمان بمدى سعة القدرة والمشيئة الإلهية، وزيادة في المعرفة بمشيئة الله وسعة
قدرته التي هي البداء وبسعة قدرة الله وسعة مشيئته.
وإنَّ الاحتراز من مثل الخضر (عليه
السلام) أو أصحاب الكهف (عليهم السلام) هو أكثر تسليماً لمشيئة الله الواسعة، من
استسلامهم للقضاء والقدر اللذين هما أضيق من سعة المشيئة، ألَا ترى قول نبيِّ الله
إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ
رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ (الأنعام: ٨٠)، فرغم يقينه
إلَّا أنَّه استثنى مشيئة الله لسعة علم الله بكلِّ شيء.
وبعبارة أُخرى: رغم كون الخضر (عليه
السلام) حيَّاً إلى آخر الزمان إلَّا أنَّ اتِّباع الأساليب والطرق الأمنية
الأمينة شيء أساسي، وهو أشدُّ تسليماً لله حيث سلَّم بسعة مشيئة الله وعلمه وقدرته
ولم يغتر بحتمية القضاء والقدر.
ولذلك المخلصون على خطر عظيم ووجل كبير،
لتهيّبهم من سعة المشيئة والعلم والقدرة والبداء، فبقدر ما لديهم من رجاء ومعرفة
بالجمال لديهم خوف ومعرفة بالجلال، وهو ما يشير إليه سيِّد الشهداء في دعاء عرفة:
«إِلهِي إِنَّ اخْتِلافَ تَدْبِيرِكَ وَسُرْعَةَ طَواءِ مَقادِيرِكَ مَنَعا
عِبادَكَ العارِفينَ بِكَ عَنِ السُّكُونِ إِلى عَطاءٍ وَاليَّأْسِ مِنْكَ في
بَلاءٍ»، فعدم سكونهم لعدم اقتصارهم بلا خوف وإن أُعطوا، وليس سوء ظنّ بالله
تعالى، بل توازن شدَّة الرجاء مع شدَّة الخوف، وهو تجلّي للعظمة الربوبية مع شدَّة
عبودية وشدَّة خضوع، وعدم يأسهم وعدم اقتصارهم على الخوف بدون رجاء في البلاء لكون
خوفهم مع رجاء - وهذا معنى دقيق بحاجة إلى تدبُّر.

تعليقات
إرسال تعليق